المادة    
قال رحمه الله: [ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء]، يبين المصنف رحمه الله هنا ضلال الذين يعبدون الملائكة، وقد كانت عبادة الملائكة معروفة عند الأمم القديمة، فقد بنوا الهياكل على أساس أنهم يعبدون الملائكة، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، وقد كان بعض العرب أيضاً يعبدون الملائكة، ويزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يصفون! والشبهة في عبادتهم: لأنهم يدبرون العالم، فهم الذين يرسلون السحاب وينشرونه ثم ينزل منه المطر، وهم الموكلون بأحوال العباد وتصريفهم..إلخ، فما داموا يدبرون الأمر فلا بأس أن يعبدوا من دون الله، ليكونوا شفعاء وواسطة لهؤلاء المشركين عند الله ليقربوهم إلى الله زلفى، كما زعمون.
فأراد المصنف رحمه الله أن ينبه على ذلك، فبين أن لفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء أبداً، فمن عبد الملائكة من دون الله فقد خاب وضل وخسر، ولهذا فإن الملائكة تتبرأ منهم، وكذلك الأنبياء والصالحون يتبرءون ممن كان يعبدهم، وهؤلاء إنما هم عباد لله، كما قال الله عز وجل: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا))[الإسراء:57]، فالملائكة يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، ويتقربون إلى الله، ويرجون الوسيلة والقربى منه سبحانه وتعالى.
وكذلك الأنبياء والصالحون، وكل من عُبد من دون الله تعالى وهو من الصالحين، فإنه لا يرضى بذلك؛ لأنه هو يتقرب إلى الله تعالى.
بل إن الملائكة يوم القيامة يبينون أن هؤلاء لم يعبدوهم، وأنهم لم يرضوا بذلك ((بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ))[سبأ:41]؛ فإن المشركين الذين يعبدون الملائكة، هم في الحقيقة يعبدون الشياطين؛ لأن الشياطين هم الذين سولوا وزينوا لهم هذا الأمر، وهذا موجود ومشاهد في أيامنا، فإن الشياطين تأتي وتلبس على بعض الناس أنها ملائكة، فإن هؤلاء الذين يزعمون أنهم أولياء لله من أصحاب الطرق الصوفية وأشباهها، يزعم أحدهم أن الله أرسل إليه ملكاً، ويدعي أنه رآه وخاطبه، مع أن المرئي في الحقيقة إنما هو شيطان؛ وذلك لأن هذا الذي لا يصلي جمعة ولا جماعة، ولا يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن تنزل عليه الملائكة أو تخدمه أبداً -كما يزعم-!!
إذاً: الذي يأتي إليه إنما هو شيطان، فيأتي في صورة طير أبيض جميل، ويدعي أنه ملك، فيصدقه ذلك الضال المضل، فيضِلُّ به خلقاً كثيراً فتنةً وابتلاءً.
وأوضح علامة على أن هؤلاء ليسوا ملائكة: أنهم يدعون إلى الشرك، والملائكة لا تدعو إلى الشرك، بل إنهم كما قال الله تعالى: ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم:6] وقال:((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26]، وأكبر معصية هي الدعوة إلى الشرك؛ لأن الشرك هو أكبر المعاصي، ومن دعا إليه فهو أكبر دعاة الضلال، فهل يمكن أن تدعو الملائكة أحداً إلى الشرك؟!
فهذا دليل قوي على أن الذين يخاطبون هؤلاء الناس إنما هم شياطين، يريدون أن يضلوهم عن دين الله تعالى.
  1. الملائكة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً

    يقول: [بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره (( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ))[الأنبياء:27-28]. ]، فالملائكة لهم منزلة وجاه عند الله تعالى، ويشفعون، ولكن الشفاعة لابد فيها من أمرين:
    الأول: الإذن من الله للشافع، قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ))[البقرة:255].
    الثاني: رضاه عن المشفوع له، قال تعالى: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ))[الأنبياء:28].
    وهم ينفذون أمره: ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27]، فإن ساقوا السحاب، أو أنزلوا المطر، أو نفخوا الأرواح في الأرحام أو قبضوها، أو عملوا أي عمل، فإنما هو بأمر الله: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))[الأعراف:54]، فلا يشاركه في ذلك أحد.
    وقال تعالى عنهم : ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[النحل:50]، فمع عظم خلقتهم، ومكانتهم العظيمة عند الله تعالى، مع ذلك يخافون الله ويتقونه، ويفعلون ما يأمرهم به سبحانه وتعالى، فكل عملٍ يعملونه فليس من تلقاء أنفسهم، وإنما هو بأمر من الله سبحانه وتعالى، ولهذا فكيف يليق أن يعبد أو يدعى العبد المأمور المنفذ الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً؟! إذاً: فلا يجوز أن تعبد الملائكة، ولا عيسى، ولا عزير، ولا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هؤلاء جميعاً لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الأمر كله، وهو النافع والضار، وإن فعل غيره من المخلوقين ما فعل، فهو إنما يفعل ذلك بأمره وبإذنه، ولو شاء سبحانه وتعالى لأهلك هؤلاء جميعاً وإن كانوا ملائكة أو أنبياء: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ))[الملك:28].
    فالله سبحانه وتعالى يستطيع أن يهلك كل أحد يشذ أو يخرج عن أمره، كائناً من كان، فيجب -إذاً- أن تصرف العبادة جميعاً له سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
  2. كل ملك له عمل ومقام لا يتعداه

    قال رحمه الله: [فمنهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على على قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه]، فكل ملك له عمله الموكل به، فلا يقصر عنه ولا يتعداه أبداً، فلو أراد ملك الجبال أن يتصرف في الأرواح أو في الأجنة، فإنه لا يستطيع أبداً؛ لأنه مأمور بعمل آخر لا يتعداه أبداً، فكل ملك من الملائكة هو من جند الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يقصر في عمله، ولا يمكن أن يتجاوزه أو يتخطاه إلى غيره.
    إذاً: فالذين يدعون الملائكة أو يستغيثون بهم، لما لهم عند الله من جاه عظيم ومنزلة عظيمة، يقال لهم: إن هؤلاء عبيد، لهم عمل لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، وهو ما وكله الله سبحانه وتعالى إليهم من أمور التدبير والتصريف.
    قال رحمه الله: [وأعلاهم الذين عنده: ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ))[الأنبياء:19] : ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20]]، أي أن أعلى الملائكة درجة هم من هذا شأنهم، فمن كان هذا شأنه، فهو قائم لله تبارك وتعالى بالعبودية.
    وعلو كل إنسان ليس بمقدار جاهه ولا ملكه، ولا ماله، ولا نسبه، لكن بمقدار عبوديته لله، ولهذا كان أفضل البشر أجمعين محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عبد الله سبحانه وتعالى حتى وصل إلى كمال العبودية، ولهذا وصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى وأشرف المقامات: في مقام الإسراء، وهو الذي لم يقع لأحد غيره، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))[الإسراء:1]، فقوله: (بعبده) للتكريم والتعظيم، فكأنه ليس له عبد إلا هو، مع أن له عبيداً غيره، ولكن المقصود: عبده الذي حقق عبوديته الكاملة لله سبحانه وتعالى، وفي مقام الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الدعاة والهداة، الذي بعثه الله لهداية العالمين أجمعين، مع أن من قبله من الرسل إنما كان يبعث ليدعو قومه خاصة، قال تعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا))[الجن:19]، أي: العبد الداعي الذي حقق كمال العبودية في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، فوصف العبودية في أشرف المقامات هو الأصل.
    ولهذا نقول: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، مع أن عبيد الله كثير، فعيسى وموسى وغيرهم من عباد الله، لكن كأننا نخص النبي صلى الله عليه وسلم لبلوغه غاية العبودية، فمن هنا كانت درجته أعلى، وكذلك الملائكة، فأعلاهم عند الله هم الذين : ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:19-20].
    فبمقدار عبوديتك لله يكون قدرك عند الله، ولذلك ارتفع قدر الصحابة الكرام عند الله للعبودية العظمى التي قاموا بها، ثم الناس بعدهم مراتب.. إلى مرتبة الفاجر الذي لو ملك الدنيا بحذافيرها، فإنه لا يساوي عند الله جناح بعوضة، بل إنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا}.
    إذاً: درجات الملائكة بحسب العبودية، ودرجات الناس بحسب ذلك، ودركات النار أيضاً بحسب ذلك، فالعصاة أقل عذاباً، وأما الأشد كفراً وضلالاً من الطواغيت والمجرمين فهم في الدركات السفلى من النار، وهكذا.. فالأمر والمعيار يرجع إلى تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى.